العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في ليبيا
تحقيق المصالحة الوطنية في ليبيا، من خلال بناء و تطبيق نموذج فعال للعدالة الإنتقالية، للخروج بها من دوامة العنف و الصراعات المتعددة، لتنطلق عملية إعادة بناء الدولة الليبية و سيادة القانون.
تحقيق المصالحة الوطنية في ليبيا، من خلال بناء و تطبيق نموذج فعال للعدالة الانتقالية، للخروج بها من دوامة العنف و الصراعات المتعددة، لتنطلق عملية إعادة بناء الدولة الليبية و سيادة القانون.
مقدمة:
حقبة الأربعة عقود من الحكم الديكتاتوري الشمولي، و التي انتهت بسقوط النظام في أغسطس 2011، تركت إرث كبير من الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، حقبة حرم فيها المواطنون من التمتع بكثير من حقوقهم الأساسية؛ من حرية التنقل و التجمع السلمي و التعبير و المشاركة في إدارة الشؤون العامة، و قتل خلالها أعداد كبيرة تحت التعذيب في المعتقلات و في إعدامات صورية في الميادين العامة و في حرم الجامعات، و أسوأ الجرائم و أكثرها جسامة كانت جريمة القتل الجماعي لقرابة 1200 معتقل، تحديدا 1158، في يوم 29 يونيو 1996 في معتقل أبو سليم في طرابلس.
هذا الإرث الثقيل من الإنتهاكات، إضافة إلى الإنتهاكات التي ارتكبها النظام السابق ضد المدنيين عام 2011، في محاولة منه لقمع إنتفاضة الشعب ضده، و خاصة مزاعم إستخدام الكتائب الأمنية الإغتصاب كسلاح في الحرب، و الذي أعتبرته “المحكمة الجنائية الدولية لرواندا” جريمة إبادة (Genocide)، و الفتنة التي غذاها النظام السابق بين بعض المدن و القرى محرضا إحداها على الأخرى، كل هذا الإرث الثقيل كان يستوجب التعامل معه بالشكل العادل و الذي يحقق المصالحة الوطنية. بدون التعامل مع هذا الإرث لا يمكن تحقيق مصالحة وطنية، و بدون مصالحة وطنية لن يكون هناك إستقرار و سلم و أمن إجتماعي؛ “وعلى الأرجح فإن تاريخاً حافلاً بالانتهاكات الجسيمة التي لم تُعالج سيؤدي إلى انقسامات اجتماعية وسيولّد غياب الثقة بين المجموعات وفي مؤسّسات الدولة، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما. كما أنّه سيطرح تساؤلات بشأن الالتزام بسيادة القانون وقد يؤول في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف في أشكال شتّى“[i].
و لقد أدرك المجلس الوطني الإنتقالي، السلطة التشريعية الإنتقالية التي قادت البلاد منذ بدء الثورة و حتى الإنتخابات العامة التي جاءت بالمؤتمر الوطني العام يوم 7 يوليو 2012، هذه المسألة وكانت حوارات و ندوات، بعضها شارك فيها مؤسسات المجتمع المدني، خلال خريف 2011 و التي تمخضت عن تبني المجلس الإنتقالي لخيار العدالة الإنتقالية و صدر قانون رقم 17 لسنة 2012 “بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية و العدالة الإنتقالية”[ii] بتاريخ 26 فبراير 2012. و لكن القانون لم يصدر بالصورة التي تحقق أهداف العملية، كما سيتم شرحه لاحقا، و تعرض للإنتقاذ و لم يتم تطبيقه.
الإشكالية الأخرى هو إقتصار السلطات التنفيذية على الجانب التشريعي، الظن بأن العدالة الإنتقالية و المصالحة الوطنية تتحقق من خلال إصدار القانون، و الحقيقة أن المشروع يحتاج إلى تفعيل جزء كبير من، إن لم يكن جل، مؤسسات الدولة. العدالة و المصالحة تحتاج إلى أدوات و آليات ثقافية و توعوية و تربوية و إعلامية و سياسية و إجتماعية. تحتاج إلى مناشط و أعمال كثيرة تصب في تهيئة المجتمع و توعيته إلى أهمية العدالة الإنتقالية و المصالحة الوطنية، ليشارك و يتفاعل معها إيجابيا و بطريقة بناءة، و إلا تظل التشريعات حبر على ورق، و هو ما حدث للأسف الشديد.
إضافة لفشل السلطات الإنتقالية المتعاقبة في مسألة إطلاق العدالة الإنتقالية من أجل تحقيق المصالحة الوطنية، فشلت هذه السلطات في إعادة تفعيل هيئات إنفاذ القانون و تعثرت جهود بناء مؤسسة الجيش فكانت المحصلة تعاظم و شيوع ثقافة “الإفلات من العقاب”، كما وصفته السيدة بن سوده المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (culture of impunity). غياب سلطة القانون، إضافة إلى الخلافات بين القوى السياسية المختلفة و إنتشار السلاح و العدد الكبير من التشكيلات المسلحة المختلفة، أغلبها جهوية و قبلية، أدى إلى وقوع إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، و من كل الأطراف، حتى اندلعت المواجهات المسلحة على نطاق واسع في الشرق و في الغرب و في الجنوب، لإضافة إلى دخول لاعب جديد على المسرح ما يعرف بتنظيم “الدولة الإسلامية” أو داعش في درنة و في سرت.
الإنتهاكات التي وقعت، و خاصة منذ عام 2014، إنتهاكات جسيمة و بدون تردد قد تفوق تلك التي وقعت خلال فترة حرب 2011، كلها نتاج لحقبة الإستبداد و الكبت و القهر التي امتدت أربعة عقود من الزمان. و لكن الأخطر أن الشرخ الإجتماعي و العداوة التي ترتبت عن هذه الإنتهاكات و الخلافات السياسية ليست فقط على مستوى ما بين المناطق أو بين المدن بل أعمق من ذلك، فالخلافات أصبحت بين أحياء مختلفة في مدينة واحدة و بين الجار و جاره بل وفي داخل الأسرة الواحدة في بعض الأحيان.
ما يجري اليوم هو نتاج ثقافة الإستبداد من عهد القذافي، و نتاج فشل السلطات الإنتقالية في التعامل مع ملف العدالة الإنتقالية و المصالحة الوطنية بشكل يرتقي إلى مستوى السهر على تحقيق المصلحة الوطنية العليا. للأسف الشديد في السنوات الأولى للثورة، و تحديدا عامي 2011/2012 كان الخطاب السياسي من السوء بحيث كان موضوع المصالحة الوطنية محظورو محرم (Taboo)، و من يتحدث عن المصالحة الوطنية يعتبر “خائن لدماء الشهداء”.
مما تقدم، نرى في منظمة التضامن أننا اليوم أحوج ما نكون في ليبيا لتحقيق العدالة الإنتقالية من أجل إرساء قواعد المصالحة الوطنية. بدون أن نواجه حقيقة الإنتهاكات منذ يوم 1 سبتمبر 1969، تاريخ الإنقلاب العسكري الذي جاء بالديكتاتور القذافي للسلطة، إلى يومنا الحاضر، و بدون إنصاف الضحايا و جبر الضرر، و بدون محاسبة الجناة، و بدون إجراء التشريعات المناسبة لمنع تكرر هذه الإنتهاكات، ستظل ليبيا في دوامة العنف و العنف المضاد و تستمر الفوضى.
[i] المركز الدولي للعدالة الإنتقالية، أهمية العدالة الإنتقالية.
[ii] الجريدة الرسمية الليبية: قانون رقم 17 لسنة 2012 “بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية و العدالة الإنتقالية”، العدد (3) السنة الأولى 24 ربيع الآخر 1433هـ الموافق 16 أبريل 2012م، الصفحة 159.