قضية مذبحة سجن ابوسليم “26 عاما من انتظار العدالة في ظل نظام قضائي ليبي عاجز”
“واقعة مذبحة سجن أبو سليم من أوضح صور الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية.”[i]
أثبت الحكم الصادر عن الدائرة الجنائية الأولى بمحكمة استئناف طرابلس في قضية مذبحة سجن بو سليم، والذي صدر يوم 15 يونيو 2022م أي قبل الذكرى السادسة والعشرون للجريمة، عدم قدرة القضاء الليبي على ضمان المساءلة إزاء الجرائم الخطيرة وضمان الحق في الوصول إلى سبل الانتصاف المدني. بعد 26 عاماً من الجريمة، ومنذ قرابة 15 عاماً من مساعي أُسر ضحايا المذبحة أمام القضاء الوطني[ii]، يجب عليهم أن يسعوا وعلى خط موازي في اللجوء للقضاء الدولي وأي قضاء وطني في البلدان التي اعتمدت مبدأ الولاية القضائية العالمية[iii] على الجرائم الخطيرة.
محكمة استئناف طرابلس، الدائرة الأولى، حكمت “بعدم اختصاصها ولائياً بنظر الدعوى وإحالة الأوراق للقضاء العسكري من حيث الاختصاص“. المحكمة أسست حكمها على أن الجريمة هي جريمة عسكرية من اختصاص القضاء العسكري:
- أن جميع المتهمين عسكريون، يحملون رتب عسكرية، تنفيذاً لتعليمات وأوامر عسكرية،
- أن الجريمة وقعت داخل ثكنة عسكرية، معسكر أبو سليم، وان السجن المركزي والسجن العسكري التابع للشرطة العسكرية يشرف على إدارتهم جمع من العسكريين الذين يخضعون للقوات المسلحة الليبية،
الادعاء بأن المتهمين جميعاً كانوا عسكريين ادعاء باطل، فالجريمة أرتكبها أشخاص يتبعون عدة جهات منها ما يُعرف بالأمن العام وجهاز الأمن الداخلي (مكتب النصر)، ومنها الحراسات الذين يتبعون جهة مدنية وليست عسكرية، وإن كانوا يحملون رتب عسكرية. المادة رقم (4) من القانون رقم (11) لسنة 2013م[iv] تنص على “تختص المحاكم العادية بمحاكمة العسكريين المساهمين مع المدني“، والفقرة رقم (6) من المادة (45) من القانون رقم (1) لسنة 1999[v]، تنص على “لا تختص محاكم الشعب المسلح بنظر الجريمة إذا كان فيها مساهمون ممن لا يخضعون لأحكام قانون العقوبات بالشعب المسلح، وفي هذه الحالة على المدعي العام إحالة الدعوى إلى المحاكم المدنية للنظر فيها“.
الجريمة وقعت في السجن المركزي (الرئيسي) والذي يقع في معسكر أبو سليم. السجن العسكري، الملاصق للسجن المركزي يتبع الشرطة العسكرية، أما السجن المركزي، مسرح الجريمة، فهو يتبع الشرطة المدنية. السجن المركزي تأسس بموجب قرار أمين اللجنة الشعبية العامة للأمن العام رقم (435) لسنة 1996م وتم تعيين العقيد محمد المصراتي (عقيد في الشرطة) مديراً للسجن المركزي بموجب قرار أمين اللجنة الشعبية العامة للأمن العام رقم (436) لسنة 1996م، كلا القرارين صدرا بتاريخ 23 أبريل 1996م، أي شهران قبل تاريخ الجريمة. بموجب هذين القرارين زالت الصفة العسكرية عن مسرح الجريمة، ولهذا الجريمة وقعت في سجن مدني، تحت سلطة جهة مدنية وليست عسكرية. وعليه فالعسكريون، من حراسات السجن المركزي والذين شاركوا في الجريمة، كانوا يتبعوا جهة مدنية يخضعون لأوامرها. من المعلوم أن الضحايا كانوا في السجن المركزي بناء على أوامر من جهاز الأمن الداخلي، بعضهم كان لا يزال رهن التحقيق وقت وقوع الجريمة.
إضافة إلى ذلك “إذا أرتكب العسكري جريمة عادية من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العام والقوانين المُكملة له فإن الاختصاص ينعقد للقضاء العادي بغض النظر عن مكان وُقوعها“، وحيث أن الجريمة المتهم بها المتهمون هي جريمة القتل العمد التي من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات العام والقوانين المُكملة له، أي جريمة عادية وليست جريمة عسكرية.
بموجب ما تقدم – وهو ما خلصت إليه الدائرة الجنائية التاسعة بمحكمة استئناف طرابلس في حكمها[vi] الصادر بتاريخ 25 ديسمبر 2019 في القضية ذاتها، قضية مذبحة سجن أبو سليم – فإن حكم الدائرة الجنائية الأولى بمحكمة استئناف طرابلس لا أساس له.
لأسباب غير معروفة لم تسترشد الدائرة الجنائية الأولى بمحكمة استئناف طرابلس بحكم الدائرة التاسعة من المحكمة ذاتها، ولم تُشِر إليه. كما أنها لم تلتزم بالمادة رقم (20) من القانون رقم (6) لسنة 2006م[vii] بشأن نظام القضاء، والذي تنص على “تختص المحكم بالفصل في كافة المنازعات والجرائم، وليس للمحاكم أن تنظر في أعمال السيادة”. هذه المادة وقفت عندها دائرة الجنايات – محكمة استئناف طرابلس في حكم صادر عنها بتاريخ 30/6/2013 –”وانتبهت إلى أن هذا النص جاء على غير العادة التي ألفها المشرع في قوانين نظام القضاء المتعاقبة فلم يذيل بعبارة “إلا ما استثنى بنص خاص”. ورأت بحق أن إسقاط هذه العبارة لا يمكن أن يعدّ سهوا أو وليد نسيان ولا يمكن أن يكون مقصودا لأن يفترض أن يكون المشرع حكيماً ورتبت على ذلك نتيجة منطقية مؤداها أن المشروع قد أعاد تنظيم ولاية القضاء بكاملها. وعلى هدى هذا الفهم وتطبيقا لقاعدة اللاحق يلغي السابق، لا مناصّ من القول بأن قانون نظام القضاء قد نسخت أحكامه أحكام قانون الإجراءات الجنائية العسكري بمعنى أن المشرع قد سحب الاختصاص الذي كان قد منحه للقضاء العسكري وأعاده لصاحب الولاية العامة والاختصاص الأصيل (القضاء العادي) ولازم ذلك أن قانون الاجراءات الجنائية العسكري قد ألغيت نصوصه بالكامل لأن المحاكم والنيابات التي نظمتها لن يكون لها وجود بدون اختصاص. وينبني على ما قلناه أن التعديلات اللاحقة لصدور قانون نظام القضاء والتي أجريت على قانون الإجراءات الجنائية العسكري وقد وردت على غير محل مما يفقدها أية قيمة“[viii].
منظمة التضامن لحقوق الإنسان تدعو النيابة العامة وأسر ضحايا مذبحة سجن أبو سليم بالمضي قُدماً في الطعن في حكم الدائرة الجنائية الأولى بمحكمة استئناف طرابلس أمام المحكمة العليا. كما تدعو التضامن أسر الضحايا بالسعي في إحالة ملف قضية جريمة سجن أبو سليم إلى المحكمة الجنائية الدولية. المحكمة الجنائية الدولية، وفقاً لنظام روما الأساسي[ix] المادة (11) “الاختصاص الزمني” الفقرة (1) “ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام الأساسي”، وحيث أن نظام روما الأساسي دخل حيز النفاذ بتاريخ 1 يوليو 2002م، فعليه لن تنظر في القضية كجريمة قتل، ولكن ممكن تكييف القضية بأنها جريمة إخفاء قسري. جريمة الإخفاء القسري ذات طبيعة خاصة، فهي جريمة مستمرة[x]، تبدأ من لحظة اختفاء الضحية وتستمر حتى تحديد مصير الضحية. دول عديدة تبنت هذا التوصيف لطبيعة جريمة الاخفاء القسري وقامت بالمحاسبة على جرائم إخفاء قسري بدأت قبل تدوين الجريمة في القانون المحلي[xi].
الحكم العادل في قضية جريمة القتل الجماعي في سجن أبو سليم ليست من أجل محاسبة الجناة، وهو هدف ضروري لمناهضة الإفلات من العقاب، ولكن فوق ذلك لكشف الحقيقة ورد الاعتبار للضحايا ولجبر الضرر ولمراجعة القوانين وفحص المؤسسات حتى لا تتكرر الانتهاكات الجسيمة – التي سبقت الجريمة وكانت مقدمات لها – في المستقبل. رغم مضي أحد عشر عاماً على سقوط النظام السابق، لم تشرع الدولة الليبية في مشروع العدالة الانتقالية[xii]. كل الدول التي صاغت ونفذت مشروع للعدالة الانتقالية بعد خروجها من حقبة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان – كانت نتيجة استبداد أنظمة ديكتاتورية أو نتيجة حروب أهلية – استطاعت أن تنتقل إلى مرحلة استقرار وأمن.
بسبب الفشل في تطبيق العدالة الانتقالية تفشى التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري. اليوم يوجد آلاف الأشخاص رهن الاعتقال التعسفي في سجون معروفة وأخرى سرية، يتعرضون للتعذيب والاهانة والتجويع المتعمد والحرمان من الرعاية الطبية وفي معزل عن العالم، وفي ظروف ومعاملة ربما أسوأ بأضعاف مضاعفة للظروف التي قادت الى جريمة القتل الجماعي في سجن أبو سليم صباح يوم 29 يونيو 1996م.
منظمة التضامن لحقوق الإنسان
طرابلس – ليبيا
29 يونيو 2022
[i] منظمة التضامن لحقوق الإنسان: “حكم المحكمة العليا، الدائرة الجنائية الثانية، في الطعن الجنائي رقم 512 / 67 ق“. الحكم صدر بتاريخ 2 مايو 2021.
[ii] في صيف 2007، وفي سعيها لمعرفة مصير ذويهم، قامت مجموعة من أسر ضحايا مذبحة سجن ابو سليم، 94 عائلة، برفع قضية أمام محكمة شمال بنغازي الابتدائية لتلزم السلطات الليبية بالإفصاح عن مصير ذويهم.
[iii] مبدأ الولاية القضائية العالمية (Universal Jurisdiction): يسمح هذا المبدأ المتأصل في القانون الدولي بملاحقة المسؤولين عن الجرائم الخطيرة، في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن جنسية المرتكب وجنسية الضحية، وكذلك عن مكان وقوع الجريمة. الجرائم الخطيرة التي يمكن ملاحقتها تحت هذا المبدأ هي جرائم القتل الجماعي (الإبادة) والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
[iv] مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن – ليبيا: “قانون رقم (11) لسنة 2013 بشأن تعديل قانون العقوبات والاجراءات العسكرية“.
[v] مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن – ليبيا: “قانون رقم (1) لسنة 1999 بإصدار قانون الإجراءات الجنائية“.
[vi] منظمة التضامن لحقوق الإنسان: “حكم محكمة استئناف طرابلس المدنية، دائرة الجنايات التاسعة، في الجنايات رقم (782) لسنة 2017“، الحكم صدر بتاريخ 15 ديسمبر 2019.
[vii] مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن – ليبيا: “قانون رقم (6) لسنة 2006 بشأن نظام القضاء“.
[viii] المفكرة القانونية: “القضاء العسكري في ليبيا“، مروان الطشاني وعلي بوراس، 24 يناير 2018.
[ix] المحكمة الجنائية الدولية: “نظام روما الأساسي“.
[x] الأمم المتحدة، الجمعية العامة: “الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري“، قرار رقم (A/RES/47/133)، 12 فبراير 1993. المادة (17) الفقرة (1): “”يعتبر كل عمل من أعمال الاختفاء القسري جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم على مصير ضحية الاختفاء ومكان إخفائه، وما دامت الوقائع قد ظلت بغير توضيح.
[xi] الأمم المتحدة، مجلس حقوق الإنسان، الدورة السادسة عشرة، تقرير الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي: “أفضل الممارسات المتعلقة بحالات الاختفاء القسري في التشريعات الجنائية المحلية“، 28 ديسمبر 2010. الفقرات 33 – 34.
[xii] العدالة الانتقالية هي حزمة من الإجراءات التشريعية والقضائية والاجتماعية والسياسية لتحقيق المصالحة الوطنية. مراحل العدالة الانتقالية: “جمع الحقائق حول الانتهاكات، توثيق الحقائق، المحاسبة (إحالة من يثبت تورطهم في جرائم إلى القضاء)، جبر الضرر (تعويض الضحايا ماديا ومعنويا)، فحص المؤسسات، وإصدار التشريعات المناسبة لمنع تكرار الانتهاكات في المستقبل”.